تعريف علمي للدِّين، دين، الدين


تعريف علمي للدِّين

قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية


I.            فهم الدين:

يعُتبر الدين نشاطًا بشريًا يمكن قبوله بسهولة فقط داخل إطار الحقيقة التي يخلقها من أجل نفسه، وما إن توافق على وجود أيةَّ أسطورة أو إله أو روح أو قوة خارقة للطبيعة (supernatural) وغيرها ممَّا يقدّمه دين معينَّ، حتى يصير بمقدورك أن ترى المنطق في كلّ ما يترتب عنها. ومع ذلك، فإنَّ معظم الكيانات سواء أكانت آلهة أو كانت غيرها من الكيانات التي تُعدُّ أساس التفكير والعمل الدّينيين، لا يمكن التحقّق من وجودها عبر الملاحظة المباشرة. فكيف يفهم غير المؤمنين الدّين؟ إنهَّم يقولون ببساطة إنَّ المؤمنين مجانين ،أو إنَّ العيش في عالم مختلف لن يكون كافيًا. يُعتبر المؤمنون أناسًا أسوياء أيضًا، كما أنهم ليسوا أكثر جنونًا من أيّ شخص آخر.
يُقدّم العلم طريقة مغايرة لإعمال النظر في الدين، لقد زوَّد العلم الثقافة الإنسانية بفهم متقن للعالم الطبيعي وللسلوك البشري، ومع ذلك، فإنَّ منطق السلوك الديني يبقى غير بسيط بالنسبة إلى العالم. لا بدَّ من أن يفهم العالم الدّين باعتباره طرق عمل معقدة لدماغ بشري لا يستجيب مباشرة للواقع القابل للملاحظة. لا يكمن سبب السلوك الديني بالنسبة إلى العالم في الأسطورة، بل في أن يفهم لمَ تفعل الكائنات الإنسانية ما تفعله وتفكّر فيه. لقد وجد العلم، من بين تفسيرات أخرى، أنهم يفعلون ما يفعلونه لأنهَّم خلقوا بذلك الشكل عبر التطوُّر (évolution)، فالتطوُّر يُعتبر المفتاح الوحيد لفهم الدّين من وجهة نظر علميةَّ.
II.            هل السلوك الدّيني سلوك عقلاني؟ وهل هو تعبئة للوسائل المتاحة لتحقيق غايات معينة؟
لقد أكَّد عالما الاجتماع ستارك (Stark) وفينك (Fink) (2000) أنَّ السلوك الدّيني في الحقيقة عقلاني بالمعنى الاقتصادي، على الرغم من الحقيقة التي تفيد أنَّ المؤمنين يعملون مع ممثلين غير مرئيين وبطرائق سحريةَّ. العقلانيةَّ اقتصاديةَّ، الأمر الذي يمكن رصده في المكافآت الاجتماعيةَّ والمادية التي تتدفق من المشاركة في المجموعات الدينيةَّ، فعندما يكون هناك سوق لأديان مختلفة، يختار الأفراد في العادة، شعوريًا أو لا شعوريًا، المعتقد الذي يجلب لهم معظم المكافآت. تصبح العقلانيةَّ جلية في هذه الحالة عندما يقيس المرء المكافآت التي تتدفق من الأنشطة الدينية المختلفة. إذن؛ على الرغم من عدم عقلانيته الواضحة، يمكن أن يكون للنشاط الدّيني عقلانيةَّ اقتصاديةَّ خفيةَّ. ومع ذلك، تعتبر العقلانيةَّ الاقتصادية المظهر السطحي للميولات الغذائيةَّ المضمرة، المثبتة داخل دماغ الثدييات، ويعتبر هذا بمثابة السلوك الأنسب لاستجلاب الطعام بالنسبة إلى معظم الأنواع، هكذا يمكن للتطوُّر أن يسبب العقلانية الاقتصاديةَّ.
III.            هل الدّين سلوك إنساني بصورة حصريةَّ؟
يمتلك الدّين بعض الخصائص الإنسانية بشكل خاص، ويمتلك أخرى سابقة على ظهور الإنسان كذلك ،إنهَّ يعتمد على القدرة الإبداعيةَّ الفريدة للإنسان على التواصل بواسطة اللغة، والدِّين، كما نعرفه، يحتاج إلى اللغة، لكنَّ ذلك لا يعني أنهَّ حرَّر نفسه من السلوك السابق لظهور الإنسان الموجود لدى الرئيسيات والثدييات وحتى لدى الزواحف، فالدّين له طقوس والحيوانات غير الإنسانية لها طقوس، للطيور طقوس، وللزواحف طقوس، إنهَّا تتواصل رمزيًا مع أعضاء أخرى من نوعها، إنها فقط لا تستعمل البنيات اللغوية نفسها التي يستعملها الإنسان.
IV.            هل تفسّر السيكولوجيا الإنسانيةَّ الدّين؟
يُعدُّ فحص الدّين من خلال علم النفس أمرًا ممكنًا، فالتفسيرات السيكولوجية ترضي العديد من العلماء الاجتماعيين مثل :
 (Hinde 1999; Kirkpatrick  2005) على سبيل المثال.
 يمتلك الدّين وظائف سيكولوجيةَّ واضحة، إنهَّ يهتمُّ بـالحاجة إلى الشخصيةَّ الأبويةَّ المطمئنة، والحاجة إلى تفسير الأشياء الصعبة، ومكافحة الاكتئاب وإنكار الفناء، … إلخ. ومع ذلك، لا تفسّر السيكولوجيا كيف أصبح البشر متدينين. وعلى الرغم من أنَّ التفسيرات السيكولوجيةَّ تخبرنا لمَ يقوم الناس بأشياء دينيةَّ، فإنها لا تخبرنا كيف بدأ الدين ولماذا يستمر .
إنهَّا لا تخبرنا عن الماضي أو المستقبل التطوُّري للدّين، إنها تخبرنا كيف يعمل الدّين في الذهن، لكنهَّا لا تخبرنا كيف توصَّل العقل إلى تلك الطريق، فالعقل نتيجة للتطوُّر وليس سببًا له.
V.            العلم التطوُّري
بما أنَّ تطوُّر الأشكال الحيةَّ يتمُّ ببطء، فإنَّ ملاحظتها بسهولة أمر غير ممكن، إننا نفهمها في المقام الأوَّل من خلال الآثار التي تتركها، ويُعدُّ فهم العمليةَّ التي أنتجت هذه الآثار أمرًا صعبًا. لقد خطا داروين (Darwin) (1859)  خطوة عظيمة نحو الأمام باكتشافه إحدى هذه العمليات، ألا وهي
 "الانتقاء الطبيعي (naturalselection) " يحدث الانتقاء الطبيعي عندما تنسخ الأشكال الموروثة لدى نوع ما نفسها بنسب مختلفة، وفي نهاية المطاف تصبح الأشكال المستنسَخة بسرعة أكثر عددًا من الأشكال المستنسَخة ببطء ،والتنوُّع داخل الأنواع يحافظ على العمليةَّ.
يسمح الجهاز العصبي المركزي البشري بشكل آخر من التطوُّر يمثله «التعلم البيئي»؛ إذ تمتلك الأنواع الأكثر تعقيداً، مثل الإنسان، نظامًا عصبيًاّ مركزيًاّ واسعًا يمكنه استقبال المعلومة من البيئة وتعديل السلوك ليواجه تحديات تلك البيئة، ويمكن للكائنات البشريةَّ أيضًا أن تستقبل المعلومة من بعضها البعض، وعندما يحدث ذلك، لا يضطر المتعلم إلى دفع تكاليف التجربة نفسها، فما يكتسبه البشر ثقافيًّا من بعضهم بعضًا ،يأتي بتكلفة أقلّ بكثير من تكلفة المعرفة الأصليةَّ.
وفي انتظار أن يفهم التاريخ التطوري للدّين بشكل كامل، يمكننا اعتباره نوعًا من «التكيف اللَّاعقلاني » إنهَّ لا عقلاني بالمعنى الذي يجعله لا يدفع الأفراد إلى حلّ المشاكل بشكل عقلاني، ومع ذلك، يجب ألَّا يكون السلوك المكيفّ سلوكًا موجّهًا بشكل عقلاني نحو هدف واضح، فأنماط السلوك التي تبدو غير عقلانيةَّ يمكن أن تتطوَّر عبر اللياقة الإنجابيةَّ (reproductive fitness) المتزايدة، التي تسُمَّى في أغلب الأحيان بـ «اللياقة» فقط، والتي تُعدُّ مقياسًا للمعدَّل الذي يتكاثر به الأفراد. ربمَّا يزيد السلوك المتطوّر لياقة فرد مُعينَّ أو لياقة بعض ذوي القربى ممَّن لديهم احتمال كبير يتعلق بحمل الجينات السلوكيةَّ نفسها. وإذا كان الدّين يتسَّم بالتكيف، فإنهَّ بهذه الطريقة يجب أن يكون متكيفًا بشكل غير عقلاني، ذلك أنَّ طول أمده وسعة انتشاره يشهدان لصالح كونه متكيفًا بطريقة ما في هذا المستوى.
وللتعامل مع التطوُّر الجيني ـ الثقافي المعقَّد للدّين، افترض إدوارد أوسبورن ويلسون  (E. O. Wilson:182-185)  ثلاثة أنواع من الانتقاء: (1) الكنسي (ecclesiastic) ، (2) البيئي ، (3) الجيني. إنهَّا مقدّمة بهذا الترتيب حسب مدى سرعة استجابتها للتغيير البيئي. يُعدُّ الانتقاء الكنسي أسرعها؛ فهو الاستجابة التي يجب على القادة الدّينيين القيام بها أمام الأوضاع المتغيرّة، وهي التي تتصف بقدر أكبر من اللَّاعقلانية ،فهناك أوقات صعبة، لقد استلمت رسالة من «الإله»، والناس يتبعون قائدًا جديدًا آملين في حياة أفضل .
يُعدُّ انتقاء السلوك الديني بطرق أخرى أمرًا ممكنًا؛ إذ يمكن اختياره بطريقة جنسيةَّ، بعبارة أخرى ،يمكنه أن يعزّز القدرة على اجتذاب الشركاء (mates)، ويمكنه أيضًا أن يشجّع التنشئة الناجحة للنسل. لا تتطفل الأديان على السلوك الجنسي والعلاقات داخل الأسرة، وهذا كله يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند توسيع نموذج تطوُّري للدّين.
والآن، يبدأ الانتقاء البيئي، لقد تحسَّنت حياة البعض، بينما لم تتحسَّن حياة الآخرين، فربما تفضل البيئة بعض التغيرات الدينيةَّ وتعاقب على الأخرى، وبعد فترة طويلة يظهر التغيرّ الجيني، فالجينات التي فضلت الاستجابات الدينيةَّ الناجحة تكاثرت، أمَّا التي لم تفضلها فتبدَّدت. لكن لا شيء في هذه الصيرورة يبدو سلوكًا عقلانيًاّ واضحًا.
VI.            نقد تعاريف أنثروبولوجيَّة للدّين
يفضّل العديد من علماء الاجتماع تعريفًا واحدًا شاملًا للدين، يتعلق الأمر بتعريف أساسي، فعلى سبيل المثال، يرى غوثري (1993) (Guthrie) أنَّ "المركزيةَّ الإنسانيةَّ" (anthropocentrism)  تمثلّ جوهر الدّين؛ إنهَّ يعتقد أنَّ إسقاط الصفات الإنسانيةَّ على العالم المحسوس يمثل جوهر الدّين. كما يرى كيركباترك (Kirkpatrick) الدّين باعتباره ارتباطًا سيكولوجيًاّ؛ بمعنى علاقة عاطفيةَّ قويةَّ بالأشياء. غير أنَّ هؤلاء الكُتاب من ذوي النزعة الجوهرية   (essentialist)  لا يقيدون أنفسهم بمناقشة النطاق الضيقّ للسلوك الذي تدلُّ عليه مفاهيمهم، إنهَّم بالأحرى يستخدمون المفاهيم باعتبارها طريقة لتنظيم المعلومات التي يقدّمونها ،ويركّزون على تلك الجوانب من الدّين التي تدعم هذا البناء المفاهيمي، ومع ذلك، ربما يكون هذا أمرًا ممتعًا للعقل الميَّال إلى الاستقصاء، فمثل هذه التعاريف ذات النزعة الجوهرية لم تكن مفيدة كثيرًا للنظريةَّ العلميةَّ  (سالر) (saler) (81:1993)  ذلك أنها تخلط بين النماذج التطوريةَّ عبر تجميعها معًا للسمات التي قد تكون لها أصول تطورية مختلفة. لا يخلق التطوُّر الجواهر، بل يخلق شفرات وراثيةَّ (genetic codes) جديدة ،وليس المفاهيم الكبرى.
إنه لمن الصعوبة بمكان وضع تعريف للدّين؛ لأنَّ له أوجهًا متعدّدة، والكثير من هذه الأوجه لا تبدو دينيةَّ بحدّ ذاتها، فعلى سبيل المثال، يشمل الدّين التجمُّع في مجموعات، كما يشمل الأكل الجماعي والخطاب النظري حول طبيعة الكون وما إلى ذلك. لقد تمَّ اقتراح تعاريف لا تُحصى من قبل المنظّرين، والشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو أنَّ الشخص العادي يمكنه أن يقول متى ينخرط الآخرون في سلوك ديني، في حين أنَّ الكثير من العلماء والباحثين يجدون مشاكل في تحديد ذلك. يُعدُّ مفهوم الدّين شبيهًا بمفهوم الثقافة؛ لأنهَّ من السهل استخدامه في حديث عادي، لكن من الصعب تحديده بدقّة.
وإذا ما نظرنا إلى الوراء، إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فسنجد أنَّ برونسيلا مالينوفسكي( BronislawMalinowski) الذي يُعتبر غالبًا أبًا للأنثروبولوجيا التجريبيةَّ الحديثة – قد خلص إلى أنَّ التعاريف الأنثروبولوجيةَّ للدّين في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر، أصبحت بكلّ صراحة فوضوية، فالأنثروبولوجيا الثقافية لم تكن في حالة جيدة عندما كان الأمر يتعلق بتعريف الدّين. كتب مالينوفسكي قائلًا:
" لقد تركتنا دراستنا التاريخيةَّ للنظريات (حيارى) نوعًا ما إزاء فوضى في الآراء واختلاط في الظواهر ،في حين أنه كان من الصعب ألَّا نقبل في تحديد شامل للدين الأشياء التالية واحداً تلو الآخر؛ الأرواح والأشباح، والطوطمات والأحداث الاجتماعية، والموت والحياة، إلى أن صار واضحًا أنَّ الدّين في هذه العمليةَّ أصبح شيئًا غامضًا أكثر فأكثر، إنهَّ كلّ شيء ولا شيء على حدٍّ سواء". [مالينوفسكي 8491: 63[
كان الارتباك الذي كتب عنه مالينوفسكي نتيجة لأعمال منظّرين أنثروبولوجيين آخرين سابقين، بدءًا من إدوارد تايلور  ( [1871]1958) E. B. Tylor الذي عرّف الدين باعتباره إيمانًا بالأرواح. والأرواح كانت عبارة عن آلهة، وقوى محفزة، وأرواح حيوانيةَّ مرافقة، إلى غير ذلك من كلّ ما يبدو ذا صبغة دينيةَّ .لقد نسب أصل هذه الأفكار الدينية إلى الأحلام عوضًا عن التطوُّر الثقافي، فكان هذا بمثابة موافقة غير مباشرة على أنَّ الدين له، نوعًا ما، أصل بيولوجي ما دام أنَّ الأحلام تنشأ في الجهاز العصبي المركزي. لقد قضى تايلور وقته في دراسة الأديان العالمية مختصرًا أسسها في مفهومه عن النزعة الإحيائيةَّ( animism) هكذا وضع نظريةَّ تفيد أنَّ «الوعي الإنساني توصَّل إلى فهم العالم، فقد أبان بداخله عن كائنات وأرواح شبيهة تمامًا بالنوايا الإنسانيةَّ» لقد كانت طريقة منطقيةَّ في التفكير مبنية على تجربة الأحلام. نظر تايلور إلى الكائنات الإنسانية باعتبارها كائنات تعمل دومًا من أجل تحسين ذكائها عبر التفكير العقلاني، فالبدائيون من البشر كانوا في الأساس عقلانيين في فكرتهم عن الأرواح، لكنَّ معرفتهم العلميةَّ كانت قليلة، لقد كانت النزعة الإحيائيةَّ عقلانيةَّ لكنها كانت جاهلة. اعتقد تايلور أنَّ الأذهان ستتحسَّن كلما اكتسبت المزيد من المعرفة العلميةَّ، وفي وقت لاحق، حذا دوركهايم( Durkheim)  حذو هذا التقليد التقدُّمي  (progressive) عبر إعلانه أنَّ العلم سينتصر في نهاية المطاف على الدّين باعتباره التمثيل (représentation) الإنساني الأولي للحقيقة.
لقد تخلتّ أفكار القرن التاسع عشر المتعلقة بأصول الدّين عن البيولوجيا، وبدأت تركّز نظرها على التطوُّر الاجتماعي ـ الثقافي للدّين، يتعلق الأمر بعمليَّة كانت في ذلك الوقت مرتبطة بوضوح بمفهوم «التقدُّم »الاجتماعي، فمن أوَّل تعاريف الدّين داخل هذه المدرسة الفكرية هناك تعريف اقترحه إميل دوركهايم( 1963[1912] ) ؛ يحدّد الدّين باعتباره تمثيلًا جمعيًاّ يجعل الأشياء مقدَّسة. لقد كان الدّين عبارة عن رؤية للعالم خلقت المقدَّس، وقد كمنت القدرة على فعل ذلك في ما هو جمعي بحدّ ذاته، أي المجتمع؛ لذلك كان على المجتمع أن يخلق الدّين، لقد رأى دوركهايم أنَّ الدّين كان أساس المجتمع، غير أنَّ المشكل في تعريف دوركهايم هو كون بعض الناس يمارسون أنشطتهم الدينيةَّ بأنفسهم دون حضور الآخرين، وبدون المجتمع .يمكنك القول إنهَّم كانوا محاطين بمجتمع مُعينَّ بمعنى بيئي ما، إلا أنهَّ كان هناك أناس وكهنة وعرَّافون وأنبياء وزعماء طوائف من ذوي الكاريزما وجماعات أخرى مقدَّسة، وكلُّ هؤلاء تواصلوا بشكل مباشر مع ما هو إلهي بدون تدخل العرف الاجتماعي، وخلقوا دينهم بأنفسهم. لقد حشد دوركهايم هذا النوع من السلوك في فئة «السحر» قائلًا إنها كانت خارج الدّين، وهكذا حافظ على وجهة نظره الموجَّهة نحو المجتمع، وكانت التكلفة هي إغفال مجموعة واسعة من أنماط السلوك التي سيضفي عليها معظم الناس صبغة دينيةَّ، لقد تجاهل دوركهايم إمكانية أن يكون الدّين صادرًا عن الدماغ البشري؛ أي الذهن، دون مساعدة "المجتمع".
يُعدُّ الدّين، في الواقع، صنفًا شعبيًاّ في الثقافة الغربيةَّ، ويمكن للتحليل المقارن أن يرتبك بشأن المجهودات الرامية إلى استعمال الأصناف الشعبيةَّ في التحليل العلمي، إنَّه لمن المهم بالنسبة إلى البحث العلمي أن يمتلك تعريفًا واضحًا لظاهرة مُعينَّة، ويمكن تعميم الأصناف الشعبية داخل التعريفات الجوهريةَّ التي قلّ استخدامها. لقد اضطرت أنثروبولوجيا اليوم في الغالب إلى العودة إلى الفكرة القائلة «إنهَّ بالرغم من إمكانيةَّ رؤيتنا للسلوك الإنساني الأساسي في كلّ نسق ثقافي، ففي النهاية تُعدُّ هذه الأنساق الثقافيةَّ في حدّ ذاتها فريدة من نوعها». هذا صحيح، لولا أنهَّ يبطل الجهد الساعي إلى اكتشاف التاريخ التطوُّري والسيرورات التكيفيةَّ في السلوك الإنساني، ويُعدُّ كليفورد غيرتز (CliffordGeertz) واحدًا من أشهر المناصرين لوضع تعريف جوهري للدّين يشمل فكرة التفرُّد الثقافي، فهو الذي وضع تعريفًا للدّين كان له أثر بالغ، يقول غيرتز   (90: 1993 [1966]) إنهَّ (الدّين) عبارة عن:
(1)  نسق من الرموز التي تعمل على (2) إنشاء أمزجة ودوافع تتسَّم بالقوة وسعة الانتشار وطول الأمد في الإنسان (3) عبر صياغة مفاهيم عن النظام العام للوجود، و(4) تلبيس هذه المفاهيم بهالة الحقيقة حتى تبدو الصيغ والمفاهيم واقعيةَّ بشكل فريد.
هذه إعادة صياغة للصنف الشعبي من الدّين في الثقافة الأوروبيةَّ الغربية. كتب طلال أسد(TalalAsad)  (1983)   قائلًا: «إنَّ الصنف الشعبي الذي بحثه غيرتز بعمق ليس غربيًا في الأصل فقط؛ بل إنهَّ مسيحي بوضوح» في حين أنَّ سايلر (Saler) (1993: 96)  يختلف مع هذا التأويل إلى حدٍّ ما، ويكتب أنَّ تعريف غيرتز يُعدُّ فكرة ثقافيةَّ غربيةَّ، لكنه ليس مسيحياً بالضرورة. في كلتا الحالتين، لا يؤدّي تعريف غيرتز إلى ذلك النوع من الملاحظة المنظّمة والموضوعية التي يمكن أن تدعم فهمًا علميًاّ للدّين، ومع ذلك فإنهَّ يبدو صائبًا؛ لأنهَّ يُعدُّ تقطيرًا للصنف الشعبي الغربي من الدّين، إنهَّ يبدو صائبًا، لكنهَّ ينطوي على الكثير من المشاكل في تطبيقه، وكما يفكّك غيرتز تعريفه، فإنهَّ يبدو أنَّ العديد من العناصر الخمسة المكوّنة للدّين تتكوَّن من «معانٍ» مترابطة؛ لذلك تركت للعالم مهمة دراسة المعاني وتصنيفها، وبما أنَّ المعاني تحدث أثرًا على الناس، فيجب الآن على المراقب إذن مراقبة ما تحدثه المعاني على الناس من أثر، غير أنهَّا مهمَّة صعبة جدًّا لا يمكن إنجازها بسهولة وبموضوعيةَّ.
 VII.            تعاريف ونظريَّة:
تُعدُّ التعاريف التي تُستعمل في العلم مؤقتة دائمًا، وستكون التعاريف الجديدة والجيدة للظواهر مقبولة دائمًا عندما تبسط وتساعد في توليد نظريةَّ أحسن، فالشيء المهم بالنسبة إلى العلم التطوُّري وغيره، هو أنَّ الظواهر قابلة للتحديد وقابلة للملاحظة. لا يوجد سبب يدعو إلى بدء تحليل الدّين بتعريف لا يمكن تغييره بينما يتطوَّر الفهم اللاحق. إنَّ كلَّ ما هو مطلوب هو طريقة لتحديد الظواهر التي توجد قيد الدراسة؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن تبدأ دراسة قوى الجاذبية بفكرة أنَّ «الأجسام تسقط أرضًا بدلًا من أن تصعد فوق » لتمييز الظواهر المراد دراستها، وليس علينا تحديد طبيعة حقول الجاذبية، فهذا يأتي لاحقاً.
تبدأ المقاربات العلميةَّ للمعرفة، في الغالب، بنظريةَّ مؤقتة تشير إلى الظواهر التي ينبغي ملاحظتها ،وبينما تجري ملاحظة الظواهر، تتطوَّر النظرية أكثر، فالتعريفات تمارس عملها، لكنهَّا ليست دائمة، وبينما يتعمَّق فهم الظواهر تطرح مفاهيم وكيانات جديدة مع تعاريف جديدة. وقد لخَّص فلاسفة العلم هذا الإطار البراديغمي مثل همبل (Hempel) (1966) وهذا الإطار موجَّه نحو اتجاه مثمر جدًّا، فهناك إمكانيةَّ مؤكَّدة في مقاربة من هذا النوع بدلًا من المقاربة العلميةَّ الاجتماعيةَّ النمطيةَّ التي تسعى إلى وضع تعاريف تركيبيةَّ وجوهريَّة شاملة تضع إشارات غير قابلة للتحقيق لتجربة الإنسان غير القابلة للقياس. وإذا كان من اللازم صياغة التعاريف، فإنهَّ من الأفضل البدء بنظريةَّ مؤقتة ليتمَّ بعدها استخراج بعض الأصناف السلوكيةَّ لتتمَّ ملاحظتها وتحليلها. لقد طوَّرت العلوم الطبيعيةَّ بعض الآليات الفكريةَّ الممتازة، التي يُعدُّ استعمالها في العلوم الاجتماعيةَّ أمرًا بعيدًا عن الجنون. لقد أشار سايلر (2004) إلى طريقة استخدام مناهج العلوم الطبيعيةَّ في دراسة الدّين، وهو يؤيّد التخلي عن نموذج «العلوم الاجتماعيَّة القياسي» الذي يتجاهل الطبيعة الإنسانيةَّ.
يمكن تعريف الظواهر وأنماط السلوك الدينية بشكل أفضل عبر تجنُّب العناصر الحدسية الغامضة أو العناصر الذاتية غير القابلة للملاحظة من قبيل المعاني. ففي عام 1966م حدَّد أنتوني والاس  (Anthony Wallace) (62- 66: 1966)، وهو عالم أنثروبولوجيا، ثلاثة عشر مركَّبًا سلوكيًا كونيًا قابلًا للملاحظة ،تقدّم تعريفًا من الحد الأدنى للدّين، كما يظهر في الجدول رقم1. تظهر الأصناف السلوكيةَّ لـ «والاس» أنَّ الدّين يمكن تعريفه من خلال السلوك القابل للملاحظة، فقد لا يكون لدى كلّ ثقافة مفهوم واحد للدّين لوصف جماع (totality) هذه المجموعة من أنماط السلوك؛ ومع ذلك فإنَّ هذه الأنماط من السلوك تختصر شيئًا ممَّا يوجد في معظم الثقافات. تضع مجموعة "والاس" السلوكيةَّ تعريفًا للدّين على أساس علمي وجاهز للتفعيل ،وهو في هذا أكبر بكثير من التعاريف التي تحيل على المعاني. تُعدُّ الأساطير والمعاني جزءًا من الدّين، لكنَّ السلوك القابل للملاحظة الذي يرافقها يبدو أنه الشيء الذي يسمح للغربيين بفهم ذلك الشيء الذي يُعدُّ «دينياَّ» على نحوٍ مقبول.
                                                                                                                      VIII.            تعريف السُّلوك الديني:
يعُتبر الدّين «مجموعة من أنماط السلوك التي تُعدُّ موحَّدة فقط في مفهومنا الغربي لها» وليس هناك سبب يدعونا لافتراض أنَّ هذه الأنماط السلوكيةَّ تطوَّرت معًا في الوقت ذاته ردًّا على تغيرّ وحيد في البيئة، ولا يوجد أيضًا سبب وجيه يدعونا إلى عدم افتراض ذلك. فعلى سبيل المثال، يرى أتران (2002   (Atran)  (وبوير (Boyer) (2001)  الدّين على أنه "خليط كبير من الأفكار والسلوك مع العديد من الأصول التطوُّريةَّ المستقلة، التي توجد خارج الدّين نفسه".
يقوم التعريف المؤقت هنا على ثلاثة نماذج سلوكيةَّ، ومن جهتي أستعمل مصطلح نماذج  (modules)  لأحيل على تلك المركّبات السلوكية، وذلك تماشيًا مع مفردات علم النفس التطوُّري توبي      (Tooby) وكوزميدس  (1992) (Cosmides) ، ومع ذلك فإنَّ مجال السلوك داخل كلّ واحد منها يبدو واسعاً، ويمكن أيضاً تسميتها «المركّبات» للإشارة إلى تشكيلة السلوك التي تحيل عليها، إنهَّا نماذج بالمعنى الذي يجعلها بمثابة حلول لمشاكل خاصَّة تتعلق بالبقاء والتكاثر، لقد طُوّرت هذه النماذج في أوقات مختلفة، وهي تقدّم في الواقع ثلاث وسائل مستقلة لتحديد الدّين، فالسلوك الذي ينتجه أيُّ واحد من هذه النماذج يمكن اعتباره دينيًاّ.
إنَّ النماذج الثلاثة المدرجة في الجدول رقم 2 مستقاة من النظريات الحديثة المتنامية حول تطوُّر الدّين ،يظهر الشكل (1) هذه النماذج في بُعدين؛ يمثل البُعد الأفقي الزمن التطوُّري القديم في الأسفل والحديث في الأعلى. ويمثل البُعد الأفقي سرعة الاستجابة التكيفية، حيث ترد الاستجابات الجينية على اليسار والاستجابات الكنسية على اليمين.
يمثل النموذج الأوَّلي جردًا تعريفيًاّ لعوامل غير قابلة للملاحظة، وقد اقتُرح من قِبَل سكوت أتران (2002). يمتلك البشر القدرة الذهنية على خلق صور لعوامل غير قابلة للملاحظة، وهي عوامل تدفع الأشياء الحقيقية إلى الحدوث، فهناك أمثلة لا حصر لها في الدّين عن العوامل غير القابلة للملاحظة مثل؛ الآلهة والأشباح والسحرة والملائكة والأرواح والأجداد المتوفين والقدّيسين الرعاة والشياطين والكائنات الفضائيةَّ وأبطال الثقافة، … إلخ. تعود الفكرة في الواقع إلى «نظريةَّ تايلور» عن الأرواح التي ترى أنَّ هذه الأرواح عوامل محفّزة، ومن الوارد أن تكون فكرة العوامل عبارة عن تكيُّف سبق ظهور الإنسان أمام الحيوانات المفترسة، فالحيوان الذي يتخيل مفترسًا يتربَّص به بين الشجيرات ستكون لديه فرصة البقاء على قيد الحياة أكثر من الذي لم يفعل.
قد لا يكون النموذج الثاني، أي المصنف الفئوي المقدَّس، على وجه الحصر إنسانيًاّ أيضًا؛ ذلك أننا نعرف عنه بين البشر نظرًا لتناقله رمزيًا بين البشر، ومع ذلك فقد يكون متولدًا عن إخلاص الحيوان لقائد القطيع أو الأب. تقسم هذه القدرة العقلية الأشياء إلى أصناف مدنسَّة وأصناف مقدَّسة، والمقدَّس أسمى وأقوى، ويجب التعامل معه باحترام. تنشأ قواعد السلوك بالنسبة إلى الأشياء المقدَّسة وغير المقدَّسة في
السياق الاجتماعي؛ إذ يوجه السلوك عبر تسلسل أخلاقي متصل من الطهارة، مع أكثرها قدسيةَّ من جهة ،وأكثرها قذارة ونجاسة من جهة أخرى. لقد ناقش روي رابابورت (1999) (Roy Rappaport) القدسيةَّ (sacredness) باستفاضة، وطوَّر حجَّة تتعلق بالتكيُّف التطوُّري. إنَّها تسيطر على الكيفيةَّ التي تتفاعل بها الجماعات البشريَّة مع البيئة، إذ تنسق الإشارات المقدَّسة استجابات الجماعة تجاه التغير البيئي، وقد كتب آخرون متعدّدون عنها بادئين بدوركهايم. لقد كانت القدسيةَّ عنصرًا مركزيًاّ في تعريف دوركهايم للدّين؛ فعلى سبيل المثال، اهتمَّت ماري دوغلاس (Mary Douglas) (1966) بالمدنسَّ والطابو  (taboo)؛ أي بنقيض المقدَّس الذي يُعدُّ في هذا السياق دينيًاّ أيضًا، ولأنهَّ منقول بشكل تركيبي (syntactically)  فهو مرتبط بالوقت الذي طوَّر فيه الإنسان اللغة.
يُعدُّ النموذج الثالث من السلوك الديني، التضحية العامَّة، رمزيًاّ للغاية؛ إذ يبدو أنهَّ تطوَّر كآليةَّ دفاع ضدَّ الخداع الرمزي وفقًا لنظريات إيرونز (Irons) (2001) وسوسيس (Sosis) وألكورتا (2003)  (Alcorta)،  فالتضحية تدلُّ على التزام تجاه إيديولوجيا جماعة خاصَّة، وتفعل التعاون داخلها، ووفقًا لإيرونز وسوسيس ،فإنَّ صعوبة تزييف أعمال التضحية تبينّ للجماعة أنهَّ يمكن الوثوق بفرد ما، وهذه الإشارات المكلفة مشابهة للإشارات المكلفة الموجودة لدى الأعضاء الآخرين في المملكة الحيوانيةَّ. في حالة البشر، تأتي فوائد اللياقة من التعاون الأفضل، أمَّا في حالة الحيوانات فتأتي الفوائد من جذب رفيق أفضل، ومع ذلك ليست كلُّ التضحيات دينيةَّ؛ فالتضحيات الدينيةَّ تتميز بطابعها الإيثاري، وتتمُّ جهارًا، وتسترشد بفلسفة مشتركة عن المقدَّس. قد تكون التضحيات الأخرى غير الدينيةَّ لمصلحة الأقرباء مثل الذريةَّ، ويمكن أن تفسّر بشكل تطوُّري أفضل باعتبارها إيثارًا لذوي القربى، يضع التعقيد الذي يسمي تبادل الإشارات في التضحية العامَّة تطوُّرها في وقت لاحق لتبادل الإشارات المتعلق بـ"التراسل الرمزي المقدَّس".
هكذا يتمُّ تعريف الدّين بصفة مؤقتة على أنه "سلوك داخل أيّ واحد من هذه النماذج الثلاثة المنفصلة ."
لقد تطوَّرت الأنساق في أوقات مختلفة مع وظائف تكيفيةَّ مختلفة، فالأنساق التي يتمُّ الحفاظ عليها بواسطة نماذج في الدماغ تتكاثر بيولوجيًاّ داخل معظم البشر؛ لذلك فإنهَّا تثير استجابة طبيعيةَّ عند إدراكها من قبل أناس آخرين. تضع الثقافة الغربيةَّ كلَّ هذه الاستجابات ضمن الصنف الشعبي للدّين، لكنَّ بعض الثقافات تفصل بينها، فعلى سبيل المثال، يبدو أنَّ الأديان الكونفوشيوسيةَّ  (Confucian) في آسيا تركز على النموذج رقم (2) الذي يهم أفعال التبجيل نحو الأشياء المقدَّسة، وتترك النموذجين الآخرين جانبًا.
تؤكد الأديان الشامانيةَّ  (Shamanic) على النموذج رقم (1) ، أي الأفعال والمعتقدات المرتبطة بعوامل غير قابلة للملاحظة، وتقلل من أهمية النموذجين ) 2 و(3، اللذين لهما علاقة أوثق بالحفاظ على التعاون داخل الأنساق الاجتماعيَّة ذات الحجم المتوسط أو الكبير. تُعدُّ الشامانيةَّ في الغالب النوع الوحيد من «الدّين» في الثقافات التي تعتمد على الصيد وجمع الطعام التي تكون فيها العلاقات الاجتماعيةَّ محليةَّ ومنظمة أوَّلًا عبر علاقة القربى، ويعتبر الفرق بين الشامان والكهنة بالأساس هو الفرق بين الممارسين الدينيين في النموذج (1)، والممارسين في النموذج السلوكي(2). في أمريكا الوسطى يتعامل الممارسون الدينيون من السكان الأصليين (الشامان الكهنة) مع كلا النموذجين( 1 و 2 ) غير أنَّ هذا يطرح مشكلة مفاهيميةَّ جديةَّ بالنسبة إلى الأنثروبولوجيين، الذين يسعون إلى وضع تعاريف جوهريةَّ للشامانيةَّ (أمثال كيهو  ،(Kehoe) (2000) وإليادي (Eliade) [1951] 1964). في بعض الديانات، مثل الكاثوليكيةَّ الشعبيةَّ، تتكامل النماذج الثلاثة بشكل تام. وفي الثقافات المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط والموجودة في العالم الجديد الإيبيري، حيث تسود الكاثوليكيةَّ الشعبيةَّ، يعامل القديسون أي العوامل المتعالية عن الطبيعة: 1ـ بتبجيل عظيم .2ـ وتُقدَّم التضحيات لهم .3ـ خلال الاحتفالات. لقد وجد هذا التركيب الثلاثي في العديد من الثقافات الفلاحيةَّ، مثل تلك الموجودة في الهند والصين، وفي كثير من الحالات تكون العوامل هي الأجداد. قد تكون هناك نماذج سلوكيةَّ أخرى محدّدة، والتي هي متضمنة في «الدّين» أمَّا تلك الواردة هنا فتصلح للبدء في وضع تعريف أوَّلي للعلم التطوُّري للدّين.
ينبغي أن تدرس هذه النماذج بشكل منفصل؛ لأنَّ تاريخها التطوُّري مختلف للغاية. لقد استجابت لضغوط انتقائيةَّ مختلفة في النظام العصبي المركزي، مثلما أشار إليها ويلسون في خطاطته، ويبدو كما لو أنَّ العلم التطوُّري المتعلق بالدّين يسير في اتجاهات مختلفة، ومع ذلك، يجب أن يكون قادرًا في نهاية المطاف على تفسير كيف طوّر البشر مجموعة من أنماط السلوك المعقدة غير العقلانية وحافظوا عليها، تلك التي لها تأثير بالغ على حياتهم.
IX.            استنتاج:
ليس الدّين شيئًا واحدًا، إنه جملة من أنماط السلوك الموحدة من خلال فشلنا في إيجاد تفسير عقلاني بسيط لها عندما ينظر إليها من وجهة نظر الفرد. ومع ذلك، تمتلك التعقيدات السلوكيةَّ داخل الدّين عقلانيةَّ تكيفيةَّ عندما ينظر إليها من وجهة نظر تطورية. وللمضي قُدُمًا في الفهم العلمي للدّين يجب تعريف هذه المركّبات والنماذج ودراستها بشكل مستقل؛ إذ يبدو أنَّ النماذج الثلاثة الواردة هنا تطوَّرت في أوقات مختلفة تمامًا.لفهم نموذج الجرد التعريفي للعاملين غير القابلين للملاحظة، ستساعد الدراسات الإنسانيةَّ ـ الحيوانيةَّ المقارنة لردود الأفعال الخائفة في فهم الكيفية التي يستفيد بها الفرد والجماعة من صور الكائنات القويةّ وغير المرئيةَّ، فلربما يمكن مقاربة هروب قطيع من الحيوانات، أو بشكل ملائم أكثر، ربما يمكن مقارنة هروب الرئيسيَّات التي تستوطن الأشجار مع ردود الأفعال تجاه صور لآلهة لا يمكن التنبؤ بها. يختلف نموذج التصنيف الفئوي المقدَّس من ثقافة إلى أخرى، ويمكن ربطه ببيئات ثقافيةَّ معينَّة، ويبدو أنهَّ قد تطوَّر في وقت ما أصبحت فيه المعلومة الثقافيةَّ آليةَّ مهمَّة للتكيف الإنساني، فالثقافات الزراعية تمتلك مجموعة من الأصناف المقدَّسة تختلف عن تلك الموجودة في ثقافات الصيد وجمع الثمار، أمَّا نموذج التضحيةَّ العامَّة فهو جزء من تركيب ينظم الجماعات حول القادة من ذوي الكاريزما.
يجب تعريف الدّين وفقًا لمركّبات نموذجيةَّ  (modular complexes)  تمَّ وضعها من قبل التطوُّر لحلّ مشاكل التكيُّف، ومن المرجح أنَّ النماذج الثلاثة المذكورة هنا ليست الوحيدة؛ ومع ذلك فإنهَّا بمثابة نقطة البدء، إنها مجموعة من الفرضيات التي تنظم البحث عن المعطيات التي من شأنها أن تكشف السبب الذي يجعل البشر يشاركون في أنماط السلوك التي يسمُّونها دينيةَّ.

v   الجدول1: المركّبات السلوكيَّة لوالاس (Wallace)

ü            الصَّلاة: مخاطبة المتعالي عن الطبيعة. وهذا يشمل أيَّ نوع من التواصل بين الناس والكيانات غير المرئيةَّ وغير الإنسانيةَّ.
ü            الموسيقى: الرقص والغناء والعزف على الآلات الموسيقيةَّ. وعلى الرغم من أنَّ الموسيقى ليست كلها دينيةَّ، فإنَّ هناك بعض الأديان التي لا تدرجها.
ü            التدريب الفسيولوجي: التلاعب الجسدي بالحالة النفسيةَّ. وهذا يضمُّ أدوات مثل المخدرات والحرمان الحسّي وإماتة الجسد عبر الألم والأرق أو التعب.
ü            النصح: مخاطبة إنسان آخر. وهذا يشمل الوعظ من قبل وزير أو شامان أو أي ممارس آخر للسحر والدّين.
ü            قراءة الرمز: الأساطير والأخلاق والجوانب الأخرى لنسق الاعتقاد. فلكلّ دين أساطيره ورموزه ومعرفته المقدَّسة.
ü            المحاكاة: تقليد الأشياء. وهذا نوع خاص من التلاعب الرمزي الموجود على الخصوص في الطقوس الدينيةَّ. وهو مشابه لمفهوم فريزر (1911) (Frazer)   عن السحر التعاطفي.
ü            المانا (mana) :  ملامسة الأشياء. تشير هذه إلى نقل القوة الخارقة للطبيعة عبر الاتصال، وهذا يندرج ضمن مفهوم السحر المعدي لفريزر.
ü            الطابو:  عدم ملامسة الأشياء. عادة ما يحرّم الدّين بعض الأشياء، كأكل بعض الأطعمة، والاتصال بالأشياء النجسة والتفكير النجس، …إلخ.
ü            الولائم: الأكل والشرب. ليست كلُّ الاحتفالات دينيةَّ، لكنَّ معظم الأديان لها أعيادها.
ü            التضحية: القربان والذبائح والمكوس. وتُعدُّ التضحية على الأرجح أكثر السلوكياَّت حسمًا.
ü            التجمُّعالمواكب والاجتماعات والدعوات.  تنظّم الأديان المجموعات،  حيث تحدّد طقوسهم وتخلق التضامن بينهم.
ü            الإلهام:  كتب والاس (1966: 66) "جميع الأديان تقرُّ ببعض التجارب على أساس أنها نتيجة للتدخل الإلهي في الحياة الإنسانيةَّ."

v   الجدول 2:  النماذج السلوكيَّة الحاسمة المؤقتة والسُّلوك المرافق

السُّلوك
نموذج دماغي
أفعال ومعتقدات مرتبطة بعوامل غير قابلة للملاحظة
جرد تعريفي للعوامل غير القابلة للملاحظة
أفعال التبجيل تجاه المقدَّس
التصنيف الفئوي للمقدَّس
التضحية العامَّة
محفّز للحماس الديني والتضحية العامَّة

v   الشكل1: نماذج من تسلسل تطوُّري


هذا التعريف من كتاب "تعريف علمي للدين" منشور من طرف مؤمنون بلا حدود